القصد الجنائي
يعد القصد الجنائي هو اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة مع العلم بأركانها ونتيجتها، ويعد القصد الجنائي بأنه الركن المعنوي للجريمة وهو يتمثل في عنصري العلم والإرادة، فالنسبة للعلم يجب أن يكون الجاني عالما علما يقينا غير مقترن بأي جهالة بأن فعله سوف يحدث عملاً إجرامي يعاقب عليه النظام فمثلا من يقوم باجتياز منطقة محظورة ظنا منه أنها مكان عادي وغير ممنوع فهنا ينتفي القصد الجنائي لانتفاء عنصر العلم، أما بالنسبة للإرادة فيجب أن تتمتع إرادة الجاني بالحرية التامة فلا يكتمل القصد الجنائي إذا كانت إرادة الجاني معيبة كإرادة السفيه وذي الغفلة والمجنون أو من وقع تحت تدليس أو المكره على شيء، فمن وقع على شيك من دون رصيد وهو تحت التهديد والإكراه تنتفي في حقه الجريمة لانتفاء القصد الجنائي، حيث إنه لولا هذا الإكراه ما أقدم على ذلك الفعل، والإكراه الذي تتعرض له إرادة الجاني قد يكون إكراهاً مادياً كالضرب مثلا أو إكراهاً معنوياً كالتهديد بإلحاق الأذى بشخص ما.
ويتخذ القصد الجنائي عدة أشكال منها القصد المباشر وفيه تتجه إرادة الجاني إلى إحداث نتيجة يرغب في إحداثها كمن يطلق النار على شخص معين فيصيبه، وهناك أيضا القصد الاحتمالي وفيه لا يشترط أن تكون النتيجة التي حدثت هي بذاتها التي كان يرغب الجاني في إحداثها بل يكفي أن يكون قد توقعها وقبلها كمن يقوم بصدم رجل بسيارته عمدا فلا يموت الرجل ولكن يموت ابنه الذي كان بجواره، وهناك نوع آخر من القصد الجنائي وهو القصد المحدود وغير المحدود، فالقصد المحدود يتوفر عندما يتعمد الجاني نتيجة معينة مثل قتل شخص أو سرقته، أما القصد غير المحدود فيتمثل عندما يأتي الجاني فعلاً يترتب عليه أكثر من نتيجة ولكنها متوقعة ومقبولة من طرف الجاني، كمن يلقي قنبلة في جمع من الناس فيصيب أكثر من شخص، وهناك أيضا القصد المقترن بسبق الإصرار والترصد كمن قرر قتل شخص وأصر على قتله فينتظره عند بيته ليلاً ويترصده لحين عودته ثم يقوم بقتله وفي هذه الحالة يعد سبق الإصرار والترصد ظرفاً مشدداً للعقوبات المقررة لجرائم الاعتداء على الأشخاص. وهناك أيضا القصد العام والقصد الخاص والنظام يكتفي بالقصد العام في أغلب الجرائم ولكن هناك بعض الجرائم المخلة بأمن الدولة وتزوير المحررات والبلاغ الكاذب والرشوة وهذه يتوفر فيها القصد الخاص مع القصد العام.
ونخلص إلى أن القصد الجنائي هو الركن المعنوي للجريمة ويعد شرطاً ضرورياً لكي تقوم المساءلة الجنائية في حق الجاني ولا يقل أهمية وخطورة عن الركن المادي وهو يختلف باختلاف نوع الجريمة ولا يشترط تحقق النتيجة لكي يتوافر القصد الجنائي بل يتحقق أيضا في حالة الشروع حيث إن العلم والإرادة لا يرتبطان بالنتيجة سواء تحققت أم لا فيكفي إتيان العمل الإجرامي متمثلا في عنصريه المادي والمعنوي، ومتى ما توافر علم الجاني بجميع مقومات الجريمة وانصراف إرادته إلى إحداث النتيجة الإجرامية تبقى المسؤولية بذلك ثابتة، إلا أن توافر القصد الجنائي من عدمه وتقدير درجته متروك لتكييف القاضي ويرجع فيه إلى حسب نوع الجريمة والأدلة المقدمة فيها.
العقوبات البديلة
انطلاقاً من موجبات العدالة والمسؤولية والمصلحة تتجه الأنظمة العدلية في الكثير من دول العالم إلى تطبيق العقوبات البديلة أو ما يعرف بعقوبة النفع العام لأسباب وطنية واقتصادية واجتماعية وإنسانية خاصة في الجرائم التي تقع لأول مرة أو من الفئات العمرية الصغيرة التي تعاني من مشكلات نتيجة ضعف التنشئة وسوء التكّيف الاجتماعي وقلة الوعي، من خلال فتح نافذة نحو المستقبل أمامهم للخروج من دائرة الضياع وذلك بالتوسع في الأخذ ببدائل العقوبات البدنية والسالبة للحرية وإعطاء القضاء سلطات أوسع في تطبيق العقوبات البديلة لتحقيق النفع العام وإصلاح الفرد والمجتمع.
وأعتقد أن العقوبات البديلة أصبحت وسيلة تأديبية حضارية بديلة لعقوبة السجن في الجرائم التعزيرية التي يجوز للقاضي أن يجتهد فيها نظراً لتغير طبيعة الجريمة والبيئة التي وقعت فيها، بخلاف جرائم الحدود التي لا مجال للاجتهاد فيها لأنها مقدرة شرعاً، والعقوبة البديلة تنعكس إيجابياً على سلوك الجاني وتشجع على الأعمال التطوعية والخيرية المتعلقة بالنفع العام، وتؤهل الشباب الجانح والمتهور ضمن برامج متخصصة تسهم في رفع مستوى الوعي الوطني والثقافي وتمنع الاختلاط بين الجانحين من الشباب في المخالفات البسيطة مع فئات المجرمين، حيث أثبتت التجارب أن البدء بعقوبة السجن يؤدي إلى كسر الحاجز النفسي عند المحكوم عليه.
والعقوبات البديلة تساهم في تقويم سلوك المحكوم عليه دون أن يوصم بالجريمة خاصة أن الكثير من معارف السجين وأصدقائه قد يقطعون صلتهم به نهائياً سواء خلال فترة سجنه أو بعد الإفراج عنه كنوع من الرفض، وتصل تلك المعاناة أقصى درجاتها في حالة تخلي الأسرة عن ابنتها السجينة أو ابنها الحدث وعدم الحضور لاستلامهم بعد انتهاء عقوبتهم، كما يمتد الرفض إلى المجتمع نتيجة عدم تقبله للمفرج عنهم، لذا فإن تفعيل هذه العقوبات بحيث تأخذ الإطار الرسمي لإصلاح الشخص الجانح وردعه دون أن تؤثر على اسمه ومكانته في المجتمع، سينعكس عليه بآثار إيجابية تبعده عن العودة إلى عالم الجريمة مرة أخرى.
ونخلص إلى أن تطبيق العقوبات البديلة في الجرائم التعزيرية سيؤدي إلى إبراز محاسن الشريعة والذب عن الدين وحفظ حقوق الإنسان وكرامته وتحقيق العدالة في المجتمع، وتهذيب وإصلاح الجاني وحماية أسرته من الآثار السلبية للعقوبة التقليدية في المجتمع، وكذلك تأهيل الجاني وزيادة الناتج الوطني وتخفيف الأعباء عن الدولة فيما يتعلق بالسجون وتحقيق النفع العام من الناحية الاقتصادية، وبالجملة نعتقد أن تطبيق العقوبات البديلة يتطلب أن يكون القاضي مؤهلاً للاجتهاد في تحديد العقوبة المشروعة والملائمة لتحقيق التهذيب والإصلاح والتأهيل للجاني وتضمن في الوقت نفسه توفر الردع والنفع العام، وإرضاء حاسة العدالة في المجتمع.
التصالح في قضايا الفساد
الدعوى الجنائية بشكل عام هي مجموعة الإجراءات التى تباشرها النيابة العامة بغرض التثبت من وقوع جريمة معينة وتحديد المتهم وأدلة الاتهام تمهيداً لتقديم الجاني للمحاكمة قضائياً، بمعنى أكثر وضوحاً تعتبر الدعوى الجنائية هي الوسيلة التي تمكّن الدولة من ممارسة حقها في معاقبة المجرمين، ولعل أكثر ما يواجه العدالة الجنائية من انتقادات في الكثير من الأنظمة العدلية في العديد من دول العالم هو تعذر الوصول إلى العدالة الناجزة لأسباب ومعوقات تختلف باختلاف الجرائم وتطور أساليبها في العصر الحديث.
وكما أسلفنا فإن هنالك الكثير من الانتقادات التي توجه لنظام العدالة الجنائية بسبب تأخر الوصول للعدالة الناجزة في ظل التعقيدات التى تصاحب الكثير من الجرائم في الوقت الحاضر، وحيث إن القاعدة القانونية تلبي الحاجة القائمة فإن اللجوء إلى ما يعرف بالتصالح والتسوية الجنائية أصبح ضرورة حتمية لاختصار الكثير من سنوات التحقيق والتقاضي واستعادة الحقوق التي قد يتعذر الوصول إليها وتحصيلها بشكل أو بآخر حسب ملابسات كل قضية دون تعاون المتهمين مقابل إسقاط العقوبات السالبة للحرية في حالة إعادة الأموال إلى الخزينة العامة.
وحيث إن العقوبة ليست مقصودة لذاتها وإنما شرعت لأجل التقويم والإصلاح والتهذيب، فليس هنالك مانع من أن تتخد الأنظمة القانونية شكلاً غير تقليدي لمعاقبة المتهم بهدف تحقيق المصلحة العامة مثل ما يعرف بالعقوبات البديلة، أو مثل الوصول إلى اتفاق وتسوية مع المتهمين بعدم معاقبتهم بالسجن مقابل تعاونهم في كشف ما يفيد التحقيق أو يساعد في استرداد أموال الدولة وفق شروطها التي تصب في المقام الأول لتحقيق المصلحة العامة والعدالة الناجزة، خاصة في القضايا التي يتطلب إثباتها سنوات عديدة أو كانت الأموال لدى بنوك خارجية يصعب استردادها دون تعاون المتهم، بدلاً من التعنت والاستمرار في إجراءات التقاضي التي قد تنتهى بعد مدة طويلة دون فائدة.
ونخلص إلى أن اللجنة المشكلة في التحقيق في جرائم الفساد منحت صلاحيات خاصة في قضايا محددة تمشياً مع المعمول به في الكثير من الأنظمة القانونية التي تهدف إلى تحقيق العدالة الناجزة والمصلحة العامة في آن واحد، وبالجملة نعتقد أن التصالح والتسوية مع المتهمين في قضايا الفساد بهدف اختصار الكثير من سنوات التحقيق والتقاضي واستعادة الحقوق التي قد يتعذر تحصيلها دون تسوية ويحقق العدالة المطلوبة.
مسؤولية الطبيب الجنائية
تعرف المسؤولية عند الفقهاء بأنها التزام شخص بضمان الضرر الواقع على الغير نتيجة لتصرف قام به، أي صلاحية الشخص المكلف لتحمل نتائج أفعاله. أما في اصطلاح القانونيين فتعرف المسؤولية بأنها تعويض للضرر الناشئ عن عمل غير مشروع، سواء كانت مسؤولية عقدية نتيجة الإخلال بالتزام عقدي، أو مسؤولية تقصيرية تقوم نتيجة خطأ والمسؤولية الجنائية عموماً تقوم على عنصري العلم والإرادة، أي الإدراك والاختيار الحر غير المعيب، وعدم الإدراك ينفي المسؤولية لقوله تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم) والمسؤوليتان المدنية والجنائية متلازمتان دائماً، لأن كل منهما تقوم على الخطأ، وهناك مسؤوليات أخرى منها المسؤولية الأدبية والتي تقوم على قواعد أخلاقية، وكذلك المسؤولية الإدارية التي تتعلق بعمل المرافق العامة وهكذا تتعدد أنواع المسؤولية باختلاف موجباتها والقواعد التي تبنى عليها.
ولقد قررت الشريعة الإسلامية مسؤولية الإنسان الفردية منذ ميلاده سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، قال تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى وأن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى)، وقوله: (كل نفس بما كسبت رهينة)، وقوله جل وعلا: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) ويقول المولى سبحانه وتعالى: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) فالقرآن يؤكد على مسؤولية الإنسان عن سعيه ليس في الدنيا فقط، بل في الآخرة أيضاً، وهذا ما يميز الخطاب الإسلامي والفهم الفقهي له، وبذا يكون معنى المسؤولية أشمل وأوسع في الإسلام، وها هو الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام يقول: “ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما ابن آدم حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وماذا عمل في ما علم؟”، فما أعظم هذا المبدأ وشموليته في الشريعة الإسلامية، حيث قررت المسؤولية تجاه الغير لقوله سبحانه: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) وقوله صلى الله عليه وسلم: “قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا”، فلا يجوز شرعاً للإنسان التعدي على نفسه دعك عن الغير، لأنها ليست ملكاً له، لقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة).
وتتحقق مسؤولية الطبيب الجنائية عموماً باستقراء أقوال الفقهاء بوجود ركنين أساسيين هما: التعدي والضرر، وعلاقة قائمة بينهما، وهذا لا يعني أن الإرادة غير مشترطة هنا ولكن الطبيب تقوم مسؤوليته حتى ولو لم يكن قاصداً الضرر، أما إذا توفر لديه القصد الجنائي فيسأل عن جريمة عمدية، ومن المتفق عليه فقهاً أن شرط المكلف أن يكون عاقلاً للتكليف هو شرط لازم لنشوء المسؤولية الجنائية.
والتعدي كركن يعرفه الفقهاء المسلمون بأنه، هو العمل الضار بدون وجه حق، والتعدي يمكن تصنيفه إلى: أولاً: تعدي عمد وهو يتحقق عندما يقوم الطبيب بفعل محظور بقصد الوصول إلى نتيجة الاضرار بالمريض (توافر القصد الجنائي)، وهنا المسألة تعتبر جناية عمد تستوجب القصاص، وفي هذا الصدد يقول الإمام النووي “ولو قطع السلعة (الخراج) أو العضو المتكل من المستقل قاطع بغير إذنه فمات لزمه القصاص”. ثانياً: تعدي الخطأ، أي عدم توفر القصد الجنائي، والأصل في المشروع أن المسؤولية لا تتحقق إلا عن عمد، ولكن رغم ذلك أجازت الشريعة العقاب على الخطأ استثناء من هذا الأصل، مراعاة للمصلحة العامة، والطبيب المخطئ خطأ فاحشاً كالعامد مسؤول جنائياً وذلك لأنه قد عصى الشارع لا عن عمد ولكن عن تقصير وعدم تثبت، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن”. ويمكننا القول إن مسؤولية الطبيب الجنائية تقوم على سلوك يشكل اعتداء، وجهلٍ من الطبيب يشكل مخالفة لأصول مهنته، وخطأ يرقى إلى القول إنه فاحش.
ويعفى الطبيب من المسؤولية عند الفقهاء كما ذكر الإمام الخرقي: “ولا ضمان على حجام ولا ختان ولا متطبب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم”. وقد علق على ذلك ابن قدامة رحم الله الجميع بتعليق مفاده أن هؤلاء جميعاً إذا فعلوا ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين: أولاً: أن يكونوا ذوي حذق في صناعتهم ولهم بصارة ومعرفة، لأنه إذا لم يكن كذلك لم يحل له مباشرة القطع، وإذا قطع مع هذا كان فعلاً محرماً فيضمن سرايته كالقطع ابتداء. ثانياً: ألا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما ينبغي أن يقطع، فإذا وجد هذان الشرطان لم يضمنوا لأنهم قطعوا قطعاً مأذوناً فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الإمام يد السارق، أو فعل فعلاً مباحاً مأذوناً في فعله. وبالجملة فإن الطبيب إذا راعى حقه في عمله ثم نتج عن فعله ضرر لحق بالمريض ولا يمكن الاحتراز منه فلا ضمان عليه، لأن الطبيب إذا كان حقه في حدوده المشروعة فهو يقوم بواجبه، والأصل أن الواجب لا يتقيد بوصف السلامة، أو على قول بعض الفقهاء أن شرط الضمان على الأمين باطل.
ويعتبر أن رضا المريض العاقل الراشد شرط لازم لعدم قيام المسؤولية الجنائية للطبيب، وإن كانت هناك حالات تستلزم تدخل الطبيب دون التعويل على مسألة الرضا هذه، بل أحياناً يكون تدخل الطبيب واجباً عليه يسأل عند امتناعه عن القيام به. وعموماً هنالك حالات لا يعتد فيها برضا المريض، منها حالة أن الطبيب كان واقعاً تحت اكراه بالتدخل الطبي، وعموماً الإكراه جنائياً بعدم إرادة الجاني ما يعفيه من المساءلة، وحالة كون المريض قاصراً أو في حكم القاصر، وحالة كون المريض مغمى عليه أو فاقد الوعي واستدعت حالته المعالجة السريعة التي لا تحتمل انتظار افاقته أو وعيه ومن ثم الحصول على إذنه بالمعالجة، ويعتبر رضا المريض كشرط لإعفاء الطبيب من المسؤولية استثناء من القاعدة التي لا تعفي الجاني عموماً عن جنايته في حال رضا المجنى عليه بالفعل الذي شكل واقعة الاعتداء الجنائي.